
الحرم المقدس
عرفت قديمًا باسم «كوربابل» ثم صحفت إلى كربلاء، فجعلها هذا التصحيف عرضة لتصحيف آخر يجمع بين الكرب والبلاء، كما رسمها بعض الشعراء.
ولم يكن لها ما تُذكر به في أقرب جيرة لها فضلًا عن أرجاء الدنيا البعيدة منها؛ فليس لها من موقعها، ولا من تربتها، ولا من حوادثها، ما يغري أحدًا برؤيتها، ثم يثبت في ذاكرة من يراها ساعة يرحل عنها.
فلعل الزمن كان خليقًا أن يعبر بها سنة بعد سنة وعصرًا بعد عصر، دون أن يُسمع لها اسم أو يحس لها بوجود، إلا أن تذكر «نينوى» وجيرتها فتدخل في زمرة تلك الجيرة بغير حساب.
وشاءت مصادفة من المصادفات أن يساق إليها ركب الحسين بعد أن حيل بينه وبين كل وجهة أخرى، فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كله. ومن حقه أن يقترن بتاريخ بني الإنسان حيثما عرفت لهذا الإنسان فضيلة يستحق بها التنويه والتخليد.
فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقها من التنويه لحق لها أن تصبح مزارًا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبًا من القداسة وحظًّا من الفضيلة؛ لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين فيها.
فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم؛ فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين — رضي الله عنه — في تلك البقعة الجرداء.
وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم من الإيمان والفداء والإيثار، ويقظة الضمير، وتعظيم الحق، ورعاية الواجب، والجلَد في المحنة، والأنفة من الضيم، والشجاعة في وجه الموت المحتوم، وهي — ومثيلات لها من طرازها — هي التي تجلَّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين، ولم تجتمع كلها ولا تجلَّت قط في موطن من المواطن تجليها في تلك الحوادث، وقد شاء القدر أن تكون في جانب منها أشرف ما يشرف به أبناء آدم؛ لأنها في الجانب الآخر منها أخزى ما يخزى به مخلوق من المخلوقات.
وحَسْبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس، أنه ما من أحد قُتل في كربلاء إلا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة، ولكنهم جميعًا آثروا الموت عطاشًا جياعًا مناضلين على أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة؛ لأنهم آثروا جمال الأخلاق على متاع الحياة.
أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها وقدوتها أنهم رأوه بينهم فافتدوه بأنفسهم، ولن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن يلازمه إلا أن يكون هو أهلًا للاستشهاد في سبيله وسبيل دعوته، وأن يكون في سليقة الشهيد الذي يأتَمُّ به الشهداء.
نموت معك
أقبل الفتى الصغير علي بن الحسين على أبيه، وقد علم أنهم مخيَّرون بين الموت والتسليم فسأله: ألسنا على الحق؟
قال الوالد المنجب النجيب: بلى، والذي يرجع إليه العباد.
فقال الفتى: يا أبه! فإذن لا نبالي!
وهكذا كانوا جميعًا لا يبالون ما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق وعليه يموتون.
وأراد الحسين — وقد علم أن التسليم لا يكون — أن يبقى للموت وحده، وألا يعرض له أحدًا من صحبه، فجمعهم مرة بعد مرة، وهو يقول لهم في كل مرة: «لقد برَرْتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدًا، فإذا جنَّكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم.»
فكأنما كان قد أراد لهم الهلاك ولم يرد النجاة، وفزعوا من رجائهم إياه كما يفزع غيرهم من مطالبتهم بالثبات والبقاء، وقالوا له كأنهم يتكلمون بلسان واحد: «معاذ الله والشهر الحرام، ماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ أنقول لهم: إنا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا، تركناه غرضًا للنبل ودريئة للرماح وجزرًا للسباع، وفررنا عنه رغبة في الحياة؟ معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك.»
قالوا له: نموت معك ولك رأيك. ولم يخطر لأحد منهم أن يزين له العدول عن رأيه إيثارًا لنجاتهم ونجاته، ولو خادعوا أنفسهم قليلًا؛ لزيَّنوا له التسليم، وسمَّوْه نصيحة مخلصين يريدون له الحياة، ولكنهم لم يخادعوا أنفسهم ولم يخادعوه، ورأوا أصدق النصيحة له أن يجنبوه التسليم ولا يجنبوه الموت، وهم جميعًا على ذلك.
ولم يكونوا جميعًا من ذوي عمومته وقرباه؛ بل كان منهم غرباء نصحوا له ولأنفسهم هذه النصيحة التي ترهب العار ولا ترهب الموت، فقال له زهير بن القين: «واللهِ لودِدت أني قُتِلْتُ ثم نُشِرْتُ ثم قُتِلْتُ حتى أقتل هكذا ألف مرة، ويدفع الله بذلك الفشل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.»
وقال مسلم بن عوسجة كأنه يعتب لما اختار له من السلامة: «أنحن نخلي عنك؟ وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدى، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به؛ لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنَّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. وأما والله لو علمتُ أنني أُقتَل ثم أحيا ثم أُحرَق ثم أحيا ثم أُحرَق ثم أذرى ويُفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك.»
وجيء إلى رجل من أصحابه الغرباء بنبأ عن ابنه في فتنة الديلم، فعلم أن الديلم أسروه، ولا يفكون إساره بغير فداء، فأذن له الحسين أن ينصرف وهو في حِلٍّ من بيعته ويعطيه فداء ابنه، فأبى الرجل إباء شديدًا، وقال: «عند الله أحتسبه ونفسي.» ثم قال للحسين: «هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك، لا يكن والله هذا أبدًا.»

وقد تناهت هذه المناقب إلى مداها الأعلى في نفس قائدهم الكريم، يخيل إلى الناظر في أعماله بكربلاء أن خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها أيها يظفر بفخار اليوم كله، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، أم في صبره أصبر، أم في كرمه أكرم، أم في إيمانه وأنفته وغيرته على الحق بالغًا من تلك المناقب المثلى أقصى مداه، إلا أنه كان يوم الشجاعة لا مراء، وكانت الشجاعة فضيلة الفضائل التي تمدها سائرها بروافد من كل خلق نبيل يعينها على شأنها. فكان الحسين — شبل علي — في شجاعته الرُّوحية والبدنية معًا في غاية الغايات، وكان مضرب المثل بين الرعيل الأول من أشجع الشجعان في أبناء آدم وحواء.
ملك جأشه، وكل شيء من حوله يوهن الجأش، ويحل عقدة العزم، ويغري بالدعة والمجاراة.
ملك جأشه ومن حوله نساؤه وأبناؤه في نضارة العمر، يجوعون ويظمأون، ويتشبثون به ويبكون، وملك جأشه روية وأناة، ولم يملكه وثبة واثب إلى الغضب أو هيجة مهتاج إلى الوغى، فكان قبل القتال وفي حومة القتال قويًّا بصيرًا ينفض الضعف عن عزائمه، كما ينفض الأسد غبرات الحصباء عن لبده، ولم يخامره الأسف قط في ذلك الموقف المرهوب إلا من أجل أحبائه وأعزائه الذين يراهم ويرونه، ويسمع صيحتهم ويسمعونه. فقال وهو ينظر إلى الأخبية ومن فيها: «لله دَرُّ ابن عباس فيما أشار به عليَّ!»
وجلس ليلة القتال في خيمته يعالج سهامًا له بين يديه، ويرتجز وأمامه ابنه العليل:
يا دهر أفٍّ لك من خليلِ كم لك بالإشراق والأصيلِ
من صاحبٍ وماجد قتيلِ والدهر لا يقنع بالبديلِ
والأمر في ذاك إلى الجليلِ وكل حي سالك سبيلي
فرد ابنُه عبرته لكيلا يزده ألمًا على ألمه، وسمعته أخته زينب، فلم تقوَ على حنانها ووجَلها، وخرجت إليه من خبائها حاسرة تنادي: «وا ثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله وأمي فاطمة الزهراء وأبي عليٌّ وأخي الحسن، فليت الموت أعدمني الحياة يا حسيناه! يا بقية الماضين وثمالة الباقين!»
فبكى لبكائها ولم ينثنِ ذرة عن عزمه الذي بات عليه، وقال لها: يا أخت! لو تُرِكَ القطا لنام. ولم يزل يناشدها ويعزيها، وهو في قرارة نفسه مستقر كالطود على مواجهة الموت وإباء التسليم أو النزول على «حكم ابن مرجانة» كما قال، ثم احتملها مغشيًّا عليها حتى أدخلها الخباء.
تزول الممالك وتدول الدول وتنجح المطامع أو تخيب وتحضر المطالب أو تغيب، وهذه الخلائق العلوية في صدر الإنسان أحق بالبقاء من الممالك وما حوَته، ومن الدول وما حفظته أو ضيعته؛ بل أحق بالبقاء من رواسي الأرض وكواكب السماء.
حرب النور والظلام
وكانت فئة الحسين صغيرة كما علمنا قد رصدت لها هنالك تلك الفئة الكبيرة التي تناقضها أتم ما يكون التناقض بين طرفين، وتباعدها أبعد ما تكون المسافة بين قطبين، فكل ما فيها أرضي مظلم مسفٌّ بالغ في الإسفاف، وليس فيها من النفحة العلوية نصيب.
أللمصادفات نظام وتدبير؟!
نحن لا نعلم إلا أنها مصادفات يخفى علينا ما بينها من الوشائج والصلات، ولكنها — لذلك — هي الأعاجيب التي تستوقف النظر لعجبها العاجب، وإن لم تستوقفه لما يفهمه فيها من نظام وتدبير.
فجيرة كربلاء كانت قديمًا من معاهد الإيمان بحرب النور والظلام، وكان حولها أناس يؤمنون بالنضال الدائم بين أورمزد وأهرمان، ولكنه كان في حقيقته ضربًا من المجاز وفنًّا من الخيال.
وتشاء مصادفات التاريخ إلا أن ترى هذه البقاع التي آمنت بأورمزد وأهرمان حربًا هي أَوْلى أن تسمى حرب النور والظلام من حرب الحسين ومقاتليه.

مآثم مخزية
فمن هذه المآثم المخزية أن الحسين برح به العطش فلم يباله، ولكنه رأى ولده عبد الله يتلوَّى من ألمه وعطشة، وقد بُحَّ صوته من البكاء، فحمله على يده يهم أن يسقيه، ويقول للقوم: «اتقوا الله في الطفل إن لم تتقوا الله فينا.» فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه، ورمى الطفل بسهم وهو يصيح ليسمعه العسكران: «خذ اسقه هذا.» فنفذ السهم إلى أحشائه!
وكانوا يصيحون بالحسين متهاتفين: «ألا ترى إلى الفرات كأنه بطون الحيات؟! والله لا تذوقه حتى تموت ومن معك عطشًا.»
ولما اشتد عطش الحسين دنا من الفرات ليشرب، فرماه حصين بن نمير بسهم وقع في فمه، فانتزعه الحسين وجعل يتلقى الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمى به إلى السماء وقد شخص ببصره إليها وهو يقول: «إن تكن حبست عنَّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين!»
وقد كان منع الماء — قبل الترامي بالسهام — نذيرًا كافيًا بالحرب، يبيح الحسين أن يصيب منهم من يتعرض للإصابة، ولكنه رأى شمر بن ذي الجوشن — أبغض مبغضيه المؤلبين عليه — يدنو من بيوته، ويجول حولها؛ ليعرف منفذ الهجوم عليها، فأبى على صاحبه السلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، وقد أمكنه أن يصميه، وهو من أَسَدِّ الرماة؛ لأنه كره أن يبدأهم بعداء.

وكأنه لمح منهم ضعف النية وسوء الدخلة في الدفاع عن مولاهم، وعلم أنهم لا يخلصون في حبِّه، ولا يؤمنون بحقِّه، وأنهم يخدمونه للرغبة أو الرهبة ولا يخدمونه للحق والذمة؛ فطمع أن يقرع ضمائرهم وينبه غفلة قلوبهم، ورمى بآخر سهم من سهام الدعوة قبل أن يرمي بسهم واحد من سهام القتال، فخرج لهم يومًا بزي جده — عليه السلام — متقلدًا سيفه لابسًا عمامته ورداءه، وأراهم أنه سيخطبهم، فكان أول ما صنعوه دليلًا على صدق فراسته فيهم؛ لأن رؤساءهم ومؤلبيهم أشفقوا أن يتركوا له آذان القوم فينفذ إلى قلوبهم ويلمس مواقع الإقناع من ألبابهم، فضجوا بالصياح والجلبة، وأكثروا من العجيج والحركة؛ ليحجبوا كلامه عن أسماعهم، ويتقوا أثر موعظته فيهم، وهو بتلك الهيئة التي تغضي عنها الأبصار، وتعنو لها الجباه.
ولكنه صابَرَهم حتى ملُّوا، وملَّ إخوانهم ضجيجهم هذا الذي يكشفون به عن عجزهم وخوفهم، ولا يوجب الثقة بدعواهم عند إخوانهم، فهدأوا بعد لحظات وسمعوه بعد الحمد والصلاة: «انسبوني من أنا! هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ أولم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ ويحكم! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟»
ثم نادى بأسماء أنصاره الذين استدعَوْه إلى الكوفة ثم خرجوا لحربه في جيش ابن زياد. فقال: «يا شيث بن الربعي! يا حجار بن أبحر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! يا عمر بن الحجاج! ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار واخضرَّت الجنبات، وإنما تُقدم على جُند لك مجنَّد؟»
فزلزلت الأرض تحت أقدامهم بهذه الكلمات، وبلغ بها المقنع ممن فيه مطمع لإقناع، وتحولت إلى صفِّه فئة منهم تعلم أنها تتحول إلى صف لن تجد فيه غير الموت العاجل، واستطابت هذا الموت، ولم تستطب البقاء مع ابن زياد لاغتنام الغنيمة وانتظار الجزاء من المناصب والأموال.
ولم تكن كلمة الحسين كل ما شهره عسكره من سلاح الدعوة قبل الاحتكام إلى السيف؛ فقد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السيوف والرماح حيث تصيب، فركب فرسه وتعرض لهم قائلًا: «يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار. إن حقًّا على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمة وأنتم أمة. إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ﷺ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، وإنما ندعوكم إلى نصر حسين وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا سوءًا: يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويُمَثِّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه.»
فوجم منهم من وجم، وتوقَّح منهم من توقَّح، على ديدن المريب المكابر إذا خلع العذار ولم يأنف من العار، وتوعدوه وتوعدوا الحسين معه أن يقتلوهم أو يُسلِموهم صاغرين إلى عبيد الله بن زياد.

مصرع الحسين
واستهدف الحسين — رضي الله عنه — لأقواس القوم وسيوفهم، فجعل أنصاره يحمونه بأنفسهم، ولا يقاتلون إلا بين يديه. وكلما سقط منهم صريع، أسرع إلى مكانه من يخلفه؛ ليلقى حتفه على أثره.
فضاقت الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، وسوَّل لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوضوا الأخبية التي أوى إليها النساء والأطفال؛ ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته. ثم أخذوا في إحراقها، وأصحاب الحسين يصدونهم ويدافعونهم، فرأى رضي الله عنه أن اشتغال أصحابه بمنعهم يصرفهم عن الاشتغال بقتالهم، فقال لهم: دعوهم يحرقونها؛ فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها.
وظل على حضور ذهنه وثبات جأشه في تلك المحنة المتراكبة التي تعصف بالصبر وتطيش بالألباب، وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم والدم، ولا ينهض به إلا أولو العزم من أندر من يلد آدم وحواء. فإنه — رضي الله عنه — كان يقاسي جهد العطش والجوع والسهر ونزف الجراح ومتابعة القتال، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم، ويدبر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ويتقون به تلك المكائد، ثم هو يحمل بلاءه وبلاءهم، ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة كلما فجع بشهيد من شهدائهم. ولا يزال كلما أصيب عزيز من أولئك الأعزاء حمله إلى جانب إخوانه وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه، وينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه؛ فيطلبون الماء، ويحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب، ويرجع إلى ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزمًا يناهض به الموت ويعرض به عن الحياة، ويقول في أثر كل صريع: «لا خير في العيش من بعدك.» ويهدف صدره لكل ما يلقاه.
وإنه لفي هذا كله، وبعضه يهد الكواهل ويقصم الأصلاب، إذا بالرماح والسيوف تنوشه من كل جانب، وإذا بالقتل يتعدى الرجال المقاتلين إلى الأطفال والصبيان من عترته وآل بيته، وسقط كل من معه واحدًا بعد واحد فلم يبقَ حوله غير ثلاثة يناضلون دونه ويتلقون الضرب عنه، وهو يسبقهم ويأذن لمن شاء منهم أن ينجو بنفسه وقد دنت الخاتمة ووضح المصير.
وكان غلام من آل الحسين — هو عبد الله بن الحسن أخيه — ينظر من الأخبية، فرأى رجلًا يضرب عمه بالسيف ليصيبه حين أخطأ زميله، فهرول الغلام إلى عمه، وصاح في براءة بالرجل: يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟
فتعمده الرجل بالسيف يريد قتله، فتلقى الغلام ضربته بيده فانقطعت وتعلقت بجلدها، فاعتنقه عمه، وجعل يواسيه وهو مشغول بدفاع من يليه.
ثم سقط الثلاثة الذين بقوا معه، فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه، وكان يحمل على الذين عن يمينه فيتفرقون، ويشدُّ على الخيل راجلًا ويشق الصفوف وحيدًا، ويهابه القريبون فيبتعدون، ويهم المتقدمون بالإجهاز عليه ثم ينكصون؛ لأنهم تحرجوا من قتله، وأحب كل منهم أن يكفيه غيره مغبة وزره، فغضب شمر بن ذي الجوشن وأمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، وصاح بمن حوله: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.
فاندفعوا إليه تحت عيني شمر مخافة من وشايته وعقابه، وضربه زرعة بن شريك التميمي على يده اليسرى فقطعها، وضربه غيره على عاتقه فخر على وجهه، ثم جعل يقوم ويكبو وهم يطعنونه بالرماح ويضربونه بالسيف حتى سكن حراكه، ووجدت به بعد موته — رضوان الله عليه — ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير إصابة النبل والسهام، وأحصاها بعضهم في ثيابه فإذا هي مائة وعشرون.
ونزل خولي بن يزيد الأصبحي ليحتز رأسه، فملكته رعدة في يديه وجسده، فنحاه شمر وهو يقول له: فت الله في عضدك!
واحتز الرأس وأبى إلا أن يسلمه إليه في رعدته؛ سخرية به وتماديًا في الشر، وتحديًا به لمن عسى أن ينعاه عليه! وقضى الله على هذا الخبيث الوضر أن يصف نفسه بفعله وصفًا لا يطرقه الشك والاتهام، فكان ضغنه هذا كله ضغنًا لا معنى له ولا باعث إليه إلا أنه من أولئك الذين يخزيهم اللؤم فيسليهم بعض السلوى أن يؤلموا به الكرام، ويجلعوه تحديًا مكشوفًا كأنه معرض للزهو والفخار، وهم يعلمون أنه لا يفخر به ولا يزهى! ولكنهم يبلغون به مأربهم إذا آلموا به من يحس فيهم الضعة والعار.
وبقيت ذروة من الحمية يرتفع إليها مرتفع.
وبقيت وهدة من الخسة ينحدر إليها منحدرون كثيرون.

لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة على انتقال النبي محمد ﷺ من هذه الدنيا إلى حظيرة الخلود، محمد الذي بر بدينهم ودنياهم فلم ينقل من الدنيا حتى نقلهم من الظلمة إلى النور، ومن حياة التيه في الصحراء إلى حياة عامرة يسودون بها أمم العالمين. ثم هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، وإذا هم في موكب جهير يجوب الصحراء إلى مدينة بعد مدينة: سباياه بنات محمد حواسر على المطايا وأعلامه رءوس أبنائه على الحراب، وهم داخلون به دخول الظافرين!
وبقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء «تسفي عليها الصبا».
فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء، فلما أمنوا العيون بعد يوم أو يومين سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله — شرفًا ولا وحشة — في الآباد بعد الآباد.
وكان يوم المقتل في العاشر من المحرم، فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام، فحفروا القبور على ضوئه، وصلُّوا على الجثث ودفنوها، ثم غادروها هناك في ذمة التاريخ. فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين، ومن حقه أن يطيف به كل إنسان؛ لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.
فما أظلت قبة السماء مكانًا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء.
لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم وسينقلب الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللّٰهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللّٰهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ إِبْراهِيمَ خَلِيلِ اللّٰهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ مُوسىٰ كَلِيمِ اللّٰهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ عِيسىٰ رُوحِ اللّٰهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ رُسُلِ اللّٰهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَيْرِ الْوَصِيِّينَ، السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وارِثَ الْحَسَنِ الرَّضِيِّ الطَّاهِرِ الرَّاضِي الْمَرْضِيِّ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْوَصِيُّ الْبَرُّ التَّقِيُّ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلَى الْأَرْواحِ الَّتِي حَلَّتْ بِفِنائِكَ وَأَناخَتْ بِرَحْلِكَ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَعَلَى الْمَلائِكَةِ الْحَافِّينَ بِكَ، أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلاةَ، وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَجاهَدْتَ الْمُلْحِدِينَ، وَعَبَدْتَ اللّٰهَ حَتَّىٰ أَتَاكَ الْيَقِينُ، السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّٰهِ وَبَرَكاتُهُ.
نبذة عن الكتاب
كتاب “أبوالشهداء الحسين بن علي” للكاتب المصري الشهير “عباس محمود العقاد” الذي صدر في عام 1946 يعد من أبرز الكتب التي ألفها أحد كبار الكتاب العرب في ملحمة كربلاء واستشهاد الامام الحسين عليه السلام من أهل السنة.
يتناول العقاد في هذا الكتاب ثورة الامام الحسين ويصور لنا المواقف الأبية من جانب والحزينة من جانب آخر، فنجد الكتاب قرائة واقعية لواقعة كربلاء كما وفي الوقت ذاته نجدها رواية ملحمية وذلك بما احتواه الكتاب من تحليل وتعليل لكل حادثةٍ من الأحداث التي مرّ بها الإمام الحسين عليه السلام.
الجميل في هذا الكتاب هو أن العقاد يستدل ويستنتج من الاحداث على أساس القيم الانسانية كما أنه يتطرق للأطباع البشرية ويصور الجانبين ويصفهما وهما جانبي الخير والشر اللذان يتمثلان بالحسين بن علي عليه السلام من جهة ويزيد بن معاوية عليه اللعنة من جهة أخرى ويصورلنا ملحمة كربلاء بأنها معركة الحق والباطل أو حرب الخير والشر الأبدية.
ومعروف أن كتب العقاد مثيرة للعقل وذلك بسبب أسلوبه العقلاني والمنطقي الذي من خلاله يدهش عقلانيتك ويحركها للتفكير، لكن في كتابه “أبو الشهداء” كأنه قد أعَدَّ العُدَّة الكاملة من ألفاظ اللغة ومعانيها ليدخل بها حربًا لا هوادة فيها؛ لتحريك هذه العاطفة وإثارة تلك المشاعر، وكأنك تقرأ المَقتل لكاتبٍ مُتَشَيِّع للحسين وآل البيت عليهم السلام على الرغم من أن العقاد كان على مذهب أهل السنة.
فيتحدث العقاد عن الحسين عليه السلام، حفيد النبي موازنًا بينه وبين خصمه اللدود يزيد بن معاوية لعنه الله، لنقرأ تحليل العقاد للشخصيتين، والفرق بين ما أسماه هو أمزِجتهما لنفهم جذور خصومتهما حتى يصل بنا إلى معركتهما الفاصلة على أرض كربلاء التي تظهر أحداثها وحشية غير مفهومة لم تُرَاعِ نسب الحسين الشريف، ذلك البطل الذي سار لمصيره بثبات شجاع لا يضره من خذله؛ لتظل سيرته الخالدة نبراسًا وتترك اللعنات لقاتليه.

نبذة عن الكاتب
عباس محمود العقاد: أَدِيبٌ كَبِير، وشاعِر، وفَيلَسُوف، وسِياسِي، ومُؤرِّخ، وصَحَفي، وراهِبُ مِحْرابِ الأدَب. ذاعَ صِيتُه فمَلَأَ الدُّنْيا بأَدبِه، ومثَّلَ حَالةً فَرِيدةً في الأدَبِ العَرَبيِّ الحَدِيث، ووصَلَ فِيهِ إِلى مَرْتَبةٍ فَرِيدَة.
وُلِدَ عبَّاس محمود العقَّاد بمُحافَظةِ أسوان عامَ ١٨٨٩م، وكانَ والِدُه مُوظَّفًا بَسِيطًا بإِدارَةِ السِّجِلَّات. اكتَفَى العَقَّادُ بحُصُولِه عَلى الشَّهادَةِ الابتِدائيَّة، غيْرَ أنَّهُ عَكَفَ عَلى القِراءَةِ وثقَّفَ نفْسَه بنفْسِه؛ حيثُ حَوَتْ مَكْتبتُه أَكثرَ مِن ثَلاثِينَ ألْفَ كِتاب. عمِلَ العقَّادُ بالعَديدِ مِنَ الوَظائفِ الحُكومِيَّة، ولكِنَّهُ كانَ يَبغُضُ العمَلَ الحُكوميَّ ويَراهُ سِجْنًا لأَدبِه؛ لِذا لمْ يَستمِرَّ طَوِيلًا فِي أيِّ وَظِيفةٍ الْتحَقَ بِها. اتَّجَهَ للعَملِ الصَّحَفي؛ فعَمِلَ بجَرِيدةِ الدُّسْتُور، كَما أَصْدَرَ جَرِيدةَ الضِّياء، وكتَبَ في أَشْهَرِ الصُّحفِ والمَجلَّاتِ آنَذَاك.
كُرِّمَ العقَّادُ كَثيرًا؛ فنالَ عُضْويَّةَ مَجْمَع اللُّغَةِ العَرَبيَّة بالقاهِرة، وكانَ عُضْوًا مُراسِلًا ﻟ مَجْمَع اللُّغَةِ العَرَبيَّة بدمشق ومَثِيلِه ببَغداد، ومُنِحَ جائِزةَ الدَّوْلةِ التَّقْدِيريَّةِ فِي الآدَاب، غيْرَ أنَّهُ رفَضَ تَسلُّمَها، كَمَا رفَضَ الدُّكْتُوراه الفَخْريَّةَ مِن جامِعةِ القاهِرة.
كانَ العقَّادُ مِغْوارًا خاضَ العَدِيدَ مِنَ المَعارِك؛ ففِي الأَدَبِ اصْطدَمَ بكِبارِ الشُّعَراءِ والأُدَباء، ودارَتْ مَعْركةٌ حامِيةُ الوَطِيسِ بَيْنَه وبَيْنَ أَمِيرِ الشُّعَراءِ أحمد شوقي فِي كِتابِه الدِّيوان فِي الأَدَبِ والنَّقْد. كَما أسَّسَ مَدْرسةَ الدِّيوانِ معَ عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري؛ حيثُ دَعا إِلى تَجْديدِ الخَيالِ والصُّورةِ الشِّعْريَّةِ والْتِزامِ الوَحْدَةِ العُضْويَّةِ فِي البِناءِ الشِّعْري. كَما هاجَمَ الكَثِيرَ مِنَ الأُدَباءِ والشُّعَراء، مِثلَ مصطفى صادق الرافعي وكانَتْ لَهُ كذلِكَ مَعارِكُ فِكْريَّةٌ معَ طه حسين وزكي مبارك ومصطفى جواد وبِنْت الشَّاطِئ.
تُوفِّيَ عامَ ١٩٦٤م تارِكًا مِيراثًا ضَخْمًا، ومِنْبرًا شاغِرًا لمَنْ يَخْلُفُه.
