عن إيران التي ثبّتت ((لغة أهل الجنة)) دستورياً
رغم تشبّث الإيرانيين بلغتهم، ضمّنوا العربية كجزء من شخصيتهم الثقافية والقومية والدينية، وقد ارتكزوا في ذلك على ما يفاخرون به من إرث واضح، يحفظ لهم إسهاماتهم التاريخية في الإسلام الحضاري.
تنصّ المادة الــ 16 من الدستور الإيراني على وجوب تدريس اللغة العربية. المادة تقول صراحة إن ركيزة وجود هذه اللغة في الحقول الدراسية في البلاد، هي تمثيلها المعبر العلمي والثقافي الوحيد إلى المعارف الإسلامية.
فاللغة العربية كما تنصّ المادة المذكورة هي “لغة القرآن والمعارف الإسلامية.. والأدب الفارسي ممتزج معها بشكل كامل”.
ورغم النشاط المستمر في المؤسّسات القانونية الإيرانية، وبعد مرور عقود على انتصار الثورة، أعاد مجلسا الشورى والخبراء التأكيد على ضرورة تدريس العربية من المراحل الإبتدائية إلى الجامعية.
وبينما تحتل اللغة العربية اليوم، رسمياً، المرتبة الثانية بعد الفارسية في إيران، فإن لها في هذه البلاد حضور سابق على الإسلام.
لم يتعامل الإيرانيون مع اللغة العربية كأية لغة تخص شعوباً أخرى. أي بوصفها أداة التواصل الإنساني الأولى. فقد تسلّلت إليهم واكتشفوها بحكم الجوار الجغرافي وما فرضه ذلك من عوامل التواصل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وصولاً إلى المعارك العسكرية.
يظهر هذا بوضوح في ما ذكره صاحب “الشاهنامه” أو “كتاب الملوك”، أبو القاسم الفردوسي، عن أفريدون ملك الفرس، الذي زوّج أبناءه من بنات ملك اليمن.
وكذلك ما جاء في “مروج الذهب” لأبي الحسن المسعودي، الذي وصف لنا الجموع التي كانت تأتي مكّة المُكرّمة من بلاد فارس فتطوف بالكعبة تعظيماً للنبي إبراهيم.
ويقول المسعودي:” كانت أسلاف الفُرس تقصد البيت الحرام تعظيماً، وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالاً في صدر الزمان وجواهر، وقد أهدى ساسان بن بابك غزالين من ذهب، وجواهر وسيوفاً وذهباً كثيراً فقذفه في زمزم”.
((نحن خُضنا البحار))
لم يفت المسعودي التذكير بالحروب التي كانت تشنّ على عرب الجزيرة من البلاد المُسمّاة حينها بلاد الروم والحبشة والسودان، فيقدّم لنا في مروجه بعضاً من قصيدة عربية فصيحة نظمها شاعر فارسي، احتفاءً بدفاع الساسانيين عن قبيلة حِمْيَر في اليمن، حيث أنشد قائلاً:
نحن خضنا البحار حتى فككنا
حِمْيَراً من بلية السودان
بليوث من آل ساسان شوس
يمنعون الحريم بالمرّان (الرماح)
تحيلنا القصيدة الآنفة وغيرها من أعمال الشعراء الإيرانيين القدماء الذين نظموا شعرهم بعربية بليغة، إلى ما يقوله مؤرّخون عن تشرّب سكان بلاد فارس للعربية، في زمن سابق على حكم الساسانيين (وتسمّى الدولة الفارسية الرابعة، وكانت تتنازع السيطرة على المنطقة بينها وبين الامبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية)، والتي انتهت بدخول المسلمين إلى إيران.
عاشت العربية في بلاد فارس قروناً طويلة. ومنذ معرفة الإيرانيين بالإسلام، لعبت دوراً مهماً في إثراء الفارسية الحديثة، وهي اللغة ذات الأصول الهندو-أوروبية، والتي انقمست تاريخياً إلى أقسام ثلاثة هي: الأفستائية (400 ق.م)، وهي لغة الديانة الزرادشتية وكتابها المُقدّس، ثم البهلوية أو الفارسية الوسطى والتي انتهت في القرن الثامن الميلادي، وصولاً إلى ما يُسمّى بالفارسية الجديدة، والتي اشتملت على مفردات عربية تربو على 50% من معجمها اللغوي. وكذلك الفارسية التي تبادلت التأثّر والتأثير مع العربية، حيث تتضمّن الأخيرة، وفق مصادر، نحو 5 آلاف كلمة مُعرّبة من الفارسية.
إرث الإسلام النفيس
تزخر مكتباتنا بالقصص التي توضح لنا شكل العلاقة التاريخية بين العرب وأهل فارس. وقد أتت على رواية أخبار الشعراء والأدباء والملوك، كما فعلت بالتفصيل عينه في سردها أخبار الممالك والدول والحروب التي شهدتها المنطقة، كما هي سنن الأمم في التاريخ.
وقد بدا لنا أن العربية لم تتأثّر كثيراً بتبدّل الأحوال وتلوّنها. بل أثبتت حضورها في الفترة السابقة على الإسلام وصولاً إلى انهيار آخر سلالات الخلافة الإسلامية. إذ تحيلنا هذه الكتب، إلى تكريم الإيرانيين للشاعر الجاهلي ميمون بن قليس بن جندل المعروف بالأعشى، الذي رغم ضعف بصره كان يأتي إيران حباً بأهلها الذين يكرّمونه ويشتاقون لسماع أشعاره. وكما تأثّر الإيرانيون باللغة العربية عبر الأعشى وغيره ممَن سبقوه وتلوه، فعل الأعشى وسواه مع الفارسية التي ضمّن بعض مفرداتها في أبياته.
لكن يعدّ تحوّل إيران إلى الإسلام في القرن السابع الميلادي، من أعظم الفترات التاريخية التي تجذّرت فيها العربية في البلاد. فقد أضحت العربية لغة الدولة ووسيلة التواصل الرسمية بين الحكام والدواوين والقادة والتجار.
وتتشكّل الفارسية المعاصرة من 28 حرفاً عربياً، إضافة إلى 4 أحرف لا مقابل صوتي لها في العربية هي (گ، پ، چ، ژ).
ويعدّ إسهام علماء بلاد فارس في تدعيم اللغة العربية وتثبيت قواعدها (النحو والصرف) من أعظم الإسهامات. وكي لا نطيل في تعداد الأسماء، يكفي ذِكر عمرو بن عثمان أو “سيبويه” صاحب “الكتاب”، ثم الزمخشري والجرجاني والنيسابوري وغيرهم.
هذا على صعيد ضبط اللغة بقواعد علمية، ساعدت في نشوء علوم الدين والمعارف الإسلامية وأهمها تفسير القرآن كنصّ لغوي – تاريخي. أما في الأدب فقد نقل وترجم لنا الإيرانيون جواهر خزائنهم مثل “كليلة ودمنة” وغيرها.
وسجّلت أيضاً مساهمات شعراء إيرانيين كباراً ومنهم متصوّفون كتبوا باللغتين العربية والفارسية معاً، ولم تزل أعمالهم حيّة بيننا إلى اليوم. من هؤلاء شمس الدين حافظ الشيرازي الذي يُقال إنه حقَّق الحد الأقصى من الانصهار بين اللغتين، حين افتتح ديوانه ببيت كتب صدره بالعربية وعجزه بالفارسية:
ألا أيها الساقي أدر كأساً وناولها
كه عشق آسان نمود أول ولى افتاد مشكلها
العربية كتثبيت للإرتباط بالمقدّسات الإسلامية
تشكّل اللغة خاصية الإنسان المميّزة. فهي على ما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء”، تجسّد الدور المنوط بها في تفسير الحياة والحركات والأشياء. وتالياً، تسعفنا في تحديد شكل العلاقة مع المادة والواقع والأفكار وكيفية تفاعلنا معها.
من هنا ظلت اللغة قالباً للثقافة والإنتاج الفكري. وامتلكت مع الوقت قدسيّتها، كونها تختزن تراث الجماعات والشعوب الشفاهية والكتابية.
يرى مسلمون أن العربية لغة مقدّسة. فهي لغة الدين والقرآن التي خاطب الله بها الناس. شأنهم في ذلك شأن مَن سبقهم من الأمم، كاليونانيين مثلاً، الذين وصفوا سائر اللغات دون لسانهم بنقيق الضفادع.
لا يشذّ الإيرانيون عن سواهم من شعوب العالم في تمسّكهم بلغتهم رغم ما اعتراها من تبدّل. لكنهم، ضمّنوا العربية كجزء من شخصيتهم الثقافية والقومية والدينية. وقد ارتكزوا في ذلك على ما يفاخرون به من إرث واضح، يحفظ لهم إسهاماتهم التاريخية في العِلم والفلسفة والأدب في الإسلام الحضاري.
وبينما تواجه العربية في إيران اليوم جملة تحديات، تستوجب تلقّف مناهج تعليمية جديدة، إلا أن بعض طلابها يقدمون عليها لأنها “لغة أهل الجنّة”، وينقلون عن الإمام جعفر الصادق قوله: “تعلَّموا العربية فإنها كلام الله الذي يُكَلِّمُ به خلقَه، وهي لغة أهل الجنّة ويجب تعلّمها”.
ورغم أن الشعب الإيراني لا يتكلّم بلسان عربي فصيح، إلا في التعبّد، بَيْدَ أنه منح العربية بُعداً ومضامين ثورية وضعتها في صلب الانقلاب السياسي والاجتماعي والثقافي، الذي أسّست له الثورة في إيران.
ذلك أن الثورة التي اتكأت إلى الإسلام برسالته العالمية وحملت لواءه لنصرة المُستضعَفين في العالم، استندت إلى العربية (اللغة المقدّسة دينياً واجتماعياً)، في التعبير عن المقدّسات بأسمائها والدفاع عنها، تماماً كما أعانت هذه اللغة الرسول العربي في إبلاغ الرسالة الإلهية إلى قومه. ولعلّ تمسّك القيادة الإيرانية بالعربية كلغة منصوص عليها دستورياً، بمثابة تثبيت لارتباط الإيرانيين الثقافي والاجتماعي والسياسي، وحتى العسكري بالقضايا والمقدسات الإسلامية.
وقادة إيران إذ يخاطبون العرب الذين يتكلمون لهجات هجينة مغرباً ومشرقاً، إنما بلسان اللغة المشتركة صاحبة المنزلة الكبرى في نفوس العرب والعجم. اللغة التي تجمعهم في الدين حين تفرّقهم السياسة.
علي السقا